نظام عالمي جديد- ترامب يُعيد تشكيل أوروبا وأوكرانيا تحت عين روسيا.

المؤلف: كمال أوزتورك08.23.2025
نظام عالمي جديد- ترامب يُعيد تشكيل أوروبا وأوكرانيا تحت عين روسيا.

لقد كان حقًا يومًا مشهودًا، سيظل محفورًا في الذاكرة، حيث بثت صور من البيت الأبيض ستثير نقاشات مستفيضة على مر السنين القادمة. ترأّس ترامب المشهد بجلسة معهودة، تحيط به قامات من قادة الدول والمؤسسات التي كانت ذات يوم، من أعظم القوى المهيمنة على الساحة العالمية.

المحور الأساسي للاجتماع تمحور حول مستقبل أوكرانيا، لكن اللافت كان غياب روسيا، الطرف المحوري في الصراع الدائر. وأُعلن على الملأ أن ترامب سيقوم بدور الوسيط، وسينقل إلى بوتين تفاصيل ما جرى خلال الاجتماع!

شرع ترامب في استعراض الحاضرين واحدًا تلو الآخر، مثنيًا على مكانة كل منهم، ومبرزًا أمام عدسات الكاميرات مدى عظمة الدول التي اجتمعت حوله. وأشار إلى أن مثل هذا التجمع، الذي يضم هذا العدد من الدول العظمى، لم يشهد البيت الأبيض مثيلًا له منذ عام 1876… وقد تم اعتبار هذه المعلومة بمثابة تأكيد إضافي على أهمية اللحظة التاريخية، وفقًا لتعبير ترامب نفسه.

وفي قاعة جانبية فخمة، عُرضت خريطة مفصلة توضح آخر المستجدات في الحرب الروسية الأوكرانية، مع تلوين المناطق التي تسيطر عليها روسيا باللون الأحمر القاتم.

وقد نشر البيت الأبيض صورةً مؤثرة من قلب الحدث، يظهر فيها ترامب وهو يوجه إصبعه نحو زيلينسكي، في لقطة توحي بأنه يملي عليه توجيهات أو يصدر له أوامر.

لقد تم تدوين هذه المشاهد والصور وذلك الاجتماع في سجلات التاريخ كشواهد حية على ملامح النظام العالمي الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا.

أوروبا المنفذة لا المقررة

ما هو المغزى من هذا المشهد؟ بوتين، الذي لا يرى ضرورة في التحاور المباشر مع قادة أوروبا أو حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، يفضل التواصل الحصري مع ترامب. وترامب، بعد لقاء ثنائي مع زيلينسكي، يستدعي القادة الأوروبيين إلى مائدة المفاوضات.

هذا السيناريو يكشف لنا عن واقع جلِي: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وفنلندا، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي… لم يعودوا أصحاب القرار في الشؤون العالمية، بل تحولوا إلى مجرد أدوات لتنفيذ القرارات.

قد يكون صحيحًا أن ماكرون وضع يده في جيبه أثناء التقاط الصور، وأن الأمين العام لحلف الناتو اتخذ وضعية استرخاء مصطنعة، واضعا ساقا فوق ساق، لكن ذلك لا يغير شيئًا من صلب الحقيقة المرة. لقد انحسر دور أوروبا إلى مرتبة "الدول التابعة"، بينما ترسخت مكانة روسيا والولايات المتحدة كقوتين حاكمتين تهيمنان على المشهد وتفرضان رؤيتهما.

أما زيلينسكي، الذي رهن مستقبل بلاده ووجودها بالكامل على دعم الجيوش والاقتصادات الأجنبية، فقد حضر الاجتماع مرتدياً بذلة رسمية أنيقة، مُغدِقاً عبارات المديح والإطراء على ترامب، ومتطلعًا إلى الحصول على أي ضمانات أمنية ممكنة، أو بصيص أمل في استعادة الأراضي التي تحتلها روسيا. إنه مشهد مأساوي بكل المقاييس.

مشهد قاتم للنظام العالمي

إن تراجع أوروبا إلى هذا المستوى المتدني لا يبشر بخير على صعيد التوازنات الدولية. لا يوجد ما يستدعي الفرح والاحتفاء في هذه الصور. فإذا سلمنا جدلاً بأن العالم قد انتقل من نظام ثنائي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب، فإن هذه الصور المؤلمة تؤكد لنا أن أوروبا لن تكون ضمن هذه الأقطاب المؤثرة.

لقد كان حضور الصين خفيًا عن الأنظار في تلك القاعة، لكنه كان محسوسًا في كل زاوية وركن، وهذا يعني أن مركز الثقل والتوازن الجديد ربما يكمن هناك.

ولا شك أن لروسيا مكانًا مرموقًا بين هذه الأقطاب، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار براعة بوتين السياسية، وتضحياته الجسام للحفاظ على قوة روسيا العسكرية. ولا يمكن لأحد أن ينكر أن روسيا ستظل، لفترة طويلة قادمة، قوة محورية مؤثرة في العالم.

ومع ذلك، فإن بوتين، الذي وصفه بايدن وقادة أوروبا بـ "الديكتاتور" و "القاتل"، وسعوا لعزله عن المجتمع الدولي، حظي باستقبال حافل على الأراضي الأميركية، وفي أروقة صنع القرار. وبدا وكأنه المستفيد الأكبر من هذا الوضع برمته.

ولم تتوانَ وسائل الإعلام الأميركية في توجيه انتقادات لاذعة لترامب، محملةً إياه المسؤولية الكاملة عن هذا التطور المؤسف للأحداث.

أوروبا ستبدأ رحلة بحث جديدة

بمجرد أن استوعبت وسائل الإعلام الأوروبية الصدمة، بدأت تنتقد بشدة طريقة التعامل المهينة مع بلادها. فالدول الأوروبية، التي دفعت ولا تزال تدفع ثمنًا باهظًا جراء هذه الحرب، تُعامل على أنها لاعب ثانوي في محادثات السلام، وهذا سيؤجج بداخلها نقاشات عميقة وجادة حول مستقبلها ومكانتها.

غير أن الأوروبيين لا يملكون رفاهية الغضب أو رفع الصوت في وجه ترامب، فهم يدركون جيدًا أنهم يعيشون منذ ما يقرب من ثمانين عامًا تحت الحماية الأميركية. فما زالت الولايات المتحدة هي الممول الأكبر لحلف الناتو، وصاحبة أعلى ميزانية دفاعية في العالم.

في المقابل، اختارت أوروبا على مدى هذه العقود ألا تبني جيوشها القوية، ولا أن تستثمر في صناعاتها الدفاعية المتقدمة، مكتفيةً بالتركيز على القضايا "الترفيهية". ولكن عندما اقتربت روسيا من حدودها، اكتشفت فجأة أنها تفتقر إلى الصواريخ الحديثة، والطائرات المقاتلة، وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة. وتبين لها أن كل هذه المعدات تأتي من أميركا، وأنه لا سبيل لمواجهة روسيا بدون هذا الدعم.

الآن بدأ الأوروبيون يستشعرون خطورة الموقف، ولكن لكي تتمكن أوروبا من بناء دفاع ذاتي حقيقي وقوي، فإنها تحتاج إلى مئات المليارات من اليوروهات، وإلى فترة زمنية لا تقل عن 15 عامًا.

ولكن خلال هذه الفترة الطويلة، من يعلم كيف سيكون شكل العالم؟ وأين ستكون مكانة الدول الأخرى على الخريطة؟

هل ترغب أميركا حقًا في إنهاء هذه الحرب الدائرة؟

لعلك تتذكر ما كتبته في مقالاتي السابقة: أميركا لا تسعى إلى إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.

والصور التي وردت من اجتماع البيت الأبيض أكدت لي مجددًا صحة هذا الاستنتاج القائم على دلائل واضحة.

سأل أحد الصحفيين ترامب: "إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فهل ستتوقفون عن دعم أوكرانيا؟".

فأجاب ترامب بكلمات ربما لم يلتفت إليها الكثيرون، ولكنها رسخت من قناعتي الراسخة:
"نحن لا ندعم أوكرانيا بالمجان، نحن نبيعها الأسلحة. بايدن أنفق 300 مليار دولار، أما أنا فلا. أنا أبيع لأوكرانيا أسلحة، وحلف الناتو هو من يدفع لنا ثمنها".

النتيجة إذًا: روسيا تضعف تدريجيًا في هذه الحرب المستمرة، ودول مثل أرمينيا وأذربيجان بدأت تخرج من الفلك الروسي وتنجذب نحو الفلك الأميركي. وأوروبا تزداد ضعفًا، وتشتد تبعيتها لواشنطن، لتتحول إلى مجرد دولة تابعة لها. وأوكرانيا تشتري أسلحة بمليارات الدولارات، وحلف الناتو يدفع الفاتورة لأميركا.

وهكذا، فإن الدولة التي تجني القدر الأكبر من المكاسب من هذه الحرب الطاحنة هي الولايات المتحدة الأميركية. فلماذا تسعى إلى إنهائها إذًا؟!

كل ما يحدث قد لا يكون أكثر من مجرد مناورة سياسية ضمن حملة انتخابية لا أكثر!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة